كتاب العودة إلى مكان مضاء بكوب حليب

تشارلز سيميك

الشعر

بدأ تشارلز سيميك بكتابة الشعر "حين رأيت أن الفتيات الجميلات ينجذبن إلى الفتيان الذين يكتبون لهن القصائد الحزينة". بالنسبة إلى شاعر أصدر حتى الآن نحو عشرين مجموعة شعرية وأكثر من ثلاثين مجموعة مترجمة عن اللغات أخرى، وبات علامة من علامات الشعر في أمريكا، فأسباب كتابة الشعر، بل الشغف به، باتت مختلفة بالتأكيد. بل يمكن القول إنها باتت متجذرة أكثر من أي شيء آخر بالشعر نفسه، باللغة، بدلاً من "الخطاب" أو "الدور" أو

 "المعنى" أياً يكن هذا المعنى. منذ البداية شغف سيميك بالغموض بالشعر. يقول في أحد الحوارات وبعد ذكر أسماء الشعراء المعاصرين الذين تأثر بهم من أمثال إليوت وباوند، إن الشاعر الذي شعر بأنه وجد علاقة خاصة به في بداية حياته الشعرية كان هارت كراين، وذلك بسبب الغموض في شعره: "شعرت أن هذا الشعر العصي تماماً على الفهم هو شكل أرقى من الشعر". لم يعد الغموض في ما بعد، ومع تفتح هذا الشاب المهاجر من يوغوسلافيا، ليتشرد في شوارع نيويورك، ويكتشف الشعر والفن والحياة معاً، هدفاً في حد ذاته. وإذا كان هناك من كلمة واحدة يمكن أن نختصر بها تجربة سيميك فهي ليست الغموض، بل "البساطة". لكن هذه البساطة لا تعني بأي حال من الأحوال "الوضوح"، بل أحياناً تكون على الضد منه، لا سيما إذا انطوى الوضوح على قدر أقل من الشعر والصدق الشعري، وقدر أكبر من النمطية والمباشرة. البساطة عند سيميك كما يكتشف قارئ قصائده هي بساطة مركبة. فبوصفه مثقفاً واسع الإطلاع، خصوصاً على الفلسفة (لديه ولع خاص بهايدغر)، ومترجماً متعدد اللغات تشرب التجارب الأوروبية المهمة ومن بعدها الأمريكية، وبوصفه أيضاً متعدد الأمكنة والهويات، كل هذا ساهم في خلق هوية شعرية خاصة جداً تمزج أحياناً بين عناصر وعوالم تبدو متناقضة مثل السريالية والواقعية، الفلسفة الوجودية والسياسة، الطبيعة والمدينة... الخ. هذا المزيج الصعب لم ينتج في النهاية لغة صعبة أو "غامضة" أو غير مفهومة أو بلاغية، بل لغة شديدة السلاسة والسهولة، على مستوى المفردات والتركيب النحوي، لكنها دائماً تستعمل لتركيب شعري يدفع القارئ رغم شدة بساطته إلى الكثير من التأمل. ما يقوم به سيميك (يلفظ بالأصل سيميتش) هو استقراء العالم واستنطاقه باستمرار، وهذه الكلمة أي "العالم" ليست مجازية هنا، فكل شيء بلا استثناء من بشر وحيوانات وذباب وأدوات وأشياء منزلية وركام وفضلات وعناصر طبيعية... كل شيء هو مادة لاستقراء العالم، كل شيء، مهما كان صغيراً أو كبيراً أو كبيراً لديه سيرة يرويها وحكاية يحكيها، إذ كما يقول سيميك في القصيدة التي يبدأ بها هذه المختارات: "أيها السيدات والسادة ستسمعون نجمة /ميتة منذ مليون عام/ في حوصلة طائر". 

شارك الكتاب مع اصدقائك