
كثر التلبيس والتدليس، والخلط والتلاعب بدين الله والمفاهيم الواردة في كتابه الكريم، وكان كل ذلك لسبب رئيس لم يتغير على مدار تاريخنا البئيس؛ هو المحافظة على عروش الطواغيت وتثبيت أركان المستبدين إلى أطول أمد ممكن. وكان لكل مفهوم في كتاب الله النصيب الكافي من التحريف والتشويه والتلاعب، من قبل تجار الدين وكهنة السلاطين الذين ما برحوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويصدون عن سبيل الله وصراطه المستقيم.
إلا أن مفهوم الملك، ونظرا لارتباطه في أحد جوانبه بالسلطان والسلطة والحكم، فقد كان له النصيب الأكبر من جهود ومساعي التزييف والخداع والتحريف، ومحاولات إسقاطه على ما يسمى ب "الملوكية / الملكية المطلقة الوراثية"، خدمة للطواغيت والمتفرعنين الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد.
لقد وجدت نفسي محاطا بكثير من الأسئلة؛ أين ورد لفظ الملك في القرآن؟ ثم تتبعت ذلك في المصحف كله، محاولا فهم السياقات التي ورد فيها هذا اللفظ، علي أفهم المقصود به. فوجدت أن مفهوم الملك في القرآن مختلف تماما عن مفهوم "الملوكية أو الملكية المطلقة الوراثية"، وأن الملك الوارد في القرآن مفهوم شامل، وله نوعان: عام وخاص، وكل نوع له أشكال مختلفة، وليس كلا النوعين قابلين للتوريث. فالملك العام متعلق بالأمة، يدار بالشورى ولا يقبل التوريث (وقد فصلنا في شرح دلالة قوله تعالى: "وأولي الأمر منكم" وارتباطها بالشورى). أما الملك الخاص، فيشمل الأموال والحقوق الفردية، ويجوز توريثه.
وأن سنة التداول ثابتة بدلالة قوله تعالى: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء..} (آل عمران: 26)، وقوله: {وتلك الأيام نداولها بين الناس..} (آل عمران: 140). وهذه تبطل فكرة «السلطة المطلقة / التمليك المطلق» أو «الحق الإلهي في الحكم». وأن السلطان السياسي هو - فقط - أحد جوانب ذلك الملك، وليس هو كل الملك. أي أن «الملك» في القرآن مفهوم شامل يتجاوز السلطة السياسية؛ فالسلطان أحد تجلياته لا جوهر المفهوم ذاته.
ثم تتبعت قصص الأنبياء، كداوود وسليمان ويوسف - عليهم السلام -، الذين أوتوا من الملك والتمكين،
{يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ۚ إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (ص: 26).
{فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ۗ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} (البقرة: 251).
{ولقد آتينا داوود وسليمان علما ۖ وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين} (النمل: 15).
أو حتى من لم يكن نبيا وبعثه الله ملكا باصطفاء منه وطلب من القوم كطالوت، فوجدت المشترك بين كل هؤلاء هو: الاصطفاء الإلهي، الاستحقاق، العدل، الحكمة، العلم، الكفاءة. وأن الملك الذي أوتوه لم يكن موروثا ممن قبلهم، ولم يورثوه هم لمن بعدهم. وهذه كانت أهم نقطة أضاءت لي الفرق بين مفهوم الملك في القرآن، وبين الملوكيات الوراثية القهرية، التي هي قائمة أساسا على فكرة التوريث والاحتكار (الفعلي والرمزي) للحكم من قبل سلالة معينة، دونا عن باقي البشر. وأن وراثة سليمان: علم لا سلطة، كما في قوله تعالى: {ولقد آتينا داوود وسليمان علما ۖ وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15)، وورث سليمان داوود ۖ وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ۖ إن هذا لهو الفضل المبين (16)} (النمل).
فالآيتان:
{ولقد آتينا داوود وسليمان علما} (النمل: 15)،
{وورث سليمان داوود} (النمل: 16)،
تدلان على أن الموروث لم يكن سلطة أو حكما، بل كان علما وحكمة. والقرآن لم يذكر أن النبوة تورث، بل هي اصطفاء إلهي. وسليمان نفسه طلب ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، ما يعني أنه لم يكن له، ولم يكن وارثا له من والده، ولو كان وارثا، لما احتاج إلى طلبه، ولم يورثه، بدلالة قوله: «لا ينبغي لأحد من بعدي».
وأن الملك الحقيقي هو لله سبحانه وحده، بلا شريك ولا ند. يقول عز من قائل: {فتعالى الله الملك الحق ۖ لا إله إلا هو رب العرش الكريم} (المؤمنون: 116). وهذه قاعدة تبطل أي دعوى امتلاك مطلق دائم. والآية التي نكررها في الدعاء: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}، لا تصف حادثة ماضية انتهت وصارت "قدرا"، بل قانونا يعمل كل يوم باستمرار. وإن ما يؤتى للناس إنما هو تمكين، أو ملك / تمليك مقيد، ومؤقت، وجزئي، خاضع لسنن الله في الإيتاء والنزع والتداول. وليس هو مطلقا ولا دائما، ولا هو يورث ولا يورث.
والملك في القرآن ليس امتلاك بشر لبشر، بل هو دائرة مسؤولية وتمكين، محدودة بحدود السنن الإلهية، والاختيار الحر، والكفاءة، والعدل. وكل تجاوز لهذه الحدود، افتئات على حق الله وحده في الملك المطلق الأزلي.
وقد راجعت وتدبرت مرارا كل الآيات التي وردت فيها مفردة «الملك» ومشتقاتها، فلم أجد شيئا من نتائج هذا البحث يتعارض معها.
وهذا ما وفقني الله إليه، وقدرني عليه، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
كثر التلبيس والتدليس، والخلط والتلاعب بدين الله والمفاهيم الواردة في كتابه الكريم، وكان كل ذلك لسبب رئيس لم يتغير على مدار تاريخنا البئيس؛ هو المحافظة على عروش الطواغيت وتثبيت أركان المستبدين إلى أطول أمد ممكن. وكان لكل مفهوم في كتاب الله النصيب الكافي من التحريف والتشويه والتلاعب، من قبل تجار الدين وكهنة السلاطين الذين ما برحوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويصدون عن سبيل الله وصراطه المستقيم.
إلا أن مفهوم الملك، ونظرا لارتباطه في أحد جوانبه بالسلطان والسلطة والحكم، فقد كان له النصيب الأكبر من جهود ومساعي التزييف والخداع والتحريف، ومحاولات إسقاطه على ما يسمى ب "الملوكية / الملكية المطلقة الوراثية"، خدمة للطواغيت والمتفرعنين الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد.
لقد وجدت نفسي محاطا بكثير من الأسئلة؛ أين ورد لفظ الملك في القرآن؟ ثم تتبعت ذلك في المصحف كله، محاولا فهم السياقات التي ورد فيها هذا اللفظ، علي أفهم المقصود به. فوجدت أن مفهوم الملك في القرآن مختلف تماما عن مفهوم "الملوكية أو الملكية المطلقة الوراثية"، وأن الملك الوارد في القرآن مفهوم شامل، وله نوعان: عام وخاص، وكل نوع له أشكال مختلفة، وليس كلا النوعين قابلين للتوريث. فالملك العام متعلق بالأمة، يدار بالشورى ولا يقبل التوريث (وقد فصلنا في شرح دلالة قوله تعالى: "وأولي الأمر منكم" وارتباطها بالشورى). أما الملك الخاص، فيشمل الأموال والحقوق الفردية، ويجوز توريثه.
وأن سنة التداول ثابتة بدلالة قوله تعالى: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء..} (آل عمران: 26)، وقوله: {وتلك الأيام نداولها بين الناس..} (آل عمران: 140). وهذه تبطل فكرة «السلطة المطلقة / التمليك المطلق» أو «الحق الإلهي في الحكم». وأن السلطان السياسي هو - فقط - أحد جوانب ذلك الملك، وليس هو كل الملك. أي أن «الملك» في القرآن مفهوم شامل يتجاوز السلطة السياسية؛ فالسلطان أحد تجلياته لا جوهر المفهوم ذاته.
ثم تتبعت قصص الأنبياء، كداوود وسليمان ويوسف - عليهم السلام -، الذين أوتوا من الملك والتمكين،
{يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ۚ إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (ص: 26).
{فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ۗ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} (البقرة: 251).
{ولقد آتينا داوود وسليمان علما ۖ وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين} (النمل: 15).
أو حتى من لم يكن نبيا وبعثه الله ملكا باصطفاء منه وطلب من القوم كطالوت، فوجدت المشترك بين كل هؤلاء هو: الاصطفاء الإلهي، الاستحقاق، العدل، الحكمة، العلم، الكفاءة. وأن الملك الذي أوتوه لم يكن موروثا ممن قبلهم، ولم يورثوه هم لمن بعدهم. وهذه كانت أهم نقطة أضاءت لي الفرق بين مفهوم الملك في القرآن، وبين الملوكيات الوراثية القهرية، التي هي قائمة أساسا على فكرة التوريث والاحتكار (الفعلي والرمزي) للحكم من قبل سلالة معينة، دونا عن باقي البشر. وأن وراثة سليمان: علم لا سلطة، كما في قوله تعالى: {ولقد آتينا داوود وسليمان علما ۖ وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15)، وورث سليمان داوود ۖ وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ۖ إن هذا لهو الفضل المبين (16)} (النمل).
فالآيتان:
{ولقد آتينا داوود وسليمان علما} (النمل: 15)،
{وورث سليمان داوود} (النمل: 16)،
تدلان على أن الموروث لم يكن سلطة أو حكما، بل كان علما وحكمة. والقرآن لم يذكر أن النبوة تورث، بل هي اصطفاء إلهي. وسليمان نفسه طلب ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، ما يعني أنه لم يكن له، ولم يكن وارثا له من والده، ولو كان وارثا، لما احتاج إلى طلبه، ولم يورثه، بدلالة قوله: «لا ينبغي لأحد من بعدي».
وأن الملك الحقيقي هو لله سبحانه وحده، بلا شريك ولا ند. يقول عز من قائل: {فتعالى الله الملك الحق ۖ لا إله إلا هو رب العرش الكريم} (المؤمنون: 116). وهذه قاعدة تبطل أي دعوى امتلاك مطلق دائم. والآية التي نكررها في الدعاء: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}، لا تصف حادثة ماضية انتهت وصارت "قدرا"، بل قانونا يعمل كل يوم باستمرار. وإن ما يؤتى للناس إنما هو تمكين، أو ملك / تمليك مقيد، ومؤقت، وجزئي، خاضع لسنن الله في الإيتاء والنزع والتداول. وليس هو مطلقا ولا دائما، ولا هو يورث ولا يورث.
والملك في القرآن ليس امتلاك بشر لبشر، بل هو دائرة مسؤولية وتمكين، محدودة بحدود السنن الإلهية، والاختيار الحر، والكفاءة، والعدل. وكل تجاوز لهذه الحدود، افتئات على حق الله وحده في الملك المطلق الأزلي.
وقد راجعت وتدبرت مرارا كل الآيات التي وردت فيها مفردة «الملك» ومشتقاتها، فلم أجد شيئا من نتائج هذا البحث يتعارض معها.
وهذا ما وفقني الله إليه، وقدرني عليه، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
المزيد...