كتاب نحو 'تحريفية' أوسع للفكر القومي العربي

عزيز السيد جاسم

دراسات وبحوث

كانت كتابة عزيز السيد جاسم، على تنوعها، واضحة كنجمة، كلما تكاثف الظلام من حولها ازدادت بروزاً وتألقاً، وذلك في جميع مؤلفاته التي تربو على الثلاثين كتاباً في شتى حقول المعرفة، من الفلسفة والعلم والتاريخ والسياسة والأدب والنقد والرواية والقصة والشعر...

. بحيث تحتار أيهم هو في حديقة المعرفة هذه وإلى أية شجرة فيها ترجع أصوله، غذ أن تشابك هذه الفروع في تلك الحديقة جعلها تلتحم متعاشقة في شكل لا سبيل لفصل شيء فيه عن شيء آخر، فكلها عبد العزيز جاسم... وفيها تكمن مركبات شخصيته ومكوناتها الإبداعية التي تجعل لكتاباته تلك الفرادة التي تتميز بها. فقد كان عزيز السيد جاسم موسوعة كاملة للمعرفة. وعلى سبيل المثال فإن عزيز في "الدبك" كتب قصة قصيرة من أروع قصصنا العربي المعاصر، زفي رائعته "مناجاة السبعين" التي أطلق عليها "نثرية"، ولم يطلق عليها صفة الشعر أو القصيدة، مع أنها هي مثال ونموذج حقيقي لما يسمى بقصيدة النثر، وفي روايتيه "المناضل" و"العمر الجميل" يظهر بشكل واضح مدى تداخل الأديب في السياسي ومقدار ما أضافته التجربة المعاشة من الفن والثراء إلى عمله الأدبي، دون أن يخلّ ذلك بفنية العمل الروائي فيمسخها بحيث تتحول الرواية إلى تاريخ لحقبة ما... أو سيرة شخصية ومذكرات لكاتبها، وهو ما يعطي الانطباع بأن الكاتب يكتب من الداخل ولا يتوهم أو يفترض الأحداث من خارجها افتراضاً. وقد كان فكره، عموماً، مطبوعاً بتلك المعرفة السياسية التي يجيد قراءة أحداثها عربياً وعالمياً، ولعل في هذا الجانب تكمن مأساة عزيز. والبقيلي، الفنان المبدع والصحفي اللامع، كان وحده القادر على التقاط لمعات عزيز السيد جاسم الذهنية، وسعة عقليته ومخيلته، وهو لهذا يقدم للقارئ من خلال هذا الكتاب تعريفاً بأهمية عزيز السيد جاسم بصفته مفكراً ومثقفاً، قبل أن يستدرج مكامن الأوجاع عبر سلسلة من الأسئلة التي تداعت عندها الأجوبة وكأنها تطبع تشخيصات آنية وحالية للأوضاع العراقية المريضة، إنه كلام لا يقبل اللبس، وينبئ منذ 1985 بما سيؤول إليه الوضع في العراق والعالم العربي، وإذ تخدم حوارات فاروق البقيلي كعتبات للنصوص التي ضمّها هذا الكتاب، فإنها لم تستكمل، فظهرت منها أربعة أجزاء، ولا أحد يدري عمّا إذا كانت هناك بقية منها، إذ رحل البقيلي تاركاً الأسئلة دون جواب.

أما المختارات اللاحقة في هذا الكتاب، فهي تشكل دفعة أولى لأنها تختصر اهتمامات عزيز السيد جاسم الأساس. فالمقالة الأولى تعرض لشأن المثقف والناقد، بينما تعرض الثانية التي ظهرت بعدها، سنة 1971، لقضايا الثقافة ومفاهيمها، ثم مآزق الفكر العربي كما يظهر بين مثقفيه المبرزين. وبعدها تأتي دراساته المطولة عن المرأة في الفكر العربي، وكذلك مفاهيم الدولة والحرية والثورة في هذا الفكر، فعزيز السيد جاسم يرفض مهادنة الأفكار الدارجة، سواء منها ما يندرج استغراباً وتبعية للغرب، أو ما يدفن رأسه في ما بعده موروثاً عربياً، وهو لا يعدو أن يكون كلاماً مرصوصاً متوارثاً ميتاً لا نفع فيه، وأيخراً يمكن القول بأن قراءة عزيز السيد جاسم اليوم قد تنير العربي وتضعه ثانية على جادة من الاجتهاد والابتكار، بعيداً عن التبعية للقدامة وفجيعة السكوت والموت.

منذ أن باشر المفكر العراقي الراحل عزيز السيد جاسم مسيرته الكتابية في مجلة (الآداب) البيروتية في مطلع الستينات وهو يخط لنفسه أسلوباً خاصاً ينبع من معتقدات فكرية ترفض الاستيطان في مدارج الأحزاب والفئات. وعلى رغم مسعاه لوضع لمسات أفكاره داخل هذه الفئات، إلا أنه كان يمنى عادة بمحاربة هذه والانقلاب عليه. فسدنة الأنظمة يرون في نزعته النقدية المثابرة ومراجعاته المستمرة تهديداً للاستقرار الذي ينشدونه، ومنه ركود الأفكار والمفاهيم التي تتيح بقاءهم على دست الحكم دون معارضة أو تعريض.

وينبغي هنا التوقع عند مفهوم (التحريف) و(التحريفية): فالمعروف أن إعادة قراءة الأفكار ونظم المعرفة وأنساقها هي من لوازم النمو والتطور. لكن الكلمة اكتسبت معنى سلبياً في العربية، وما زال عدد من المثقفين العرب يتعاملون مع المعنى على أنه ضرب (انتهازي) وتحول في الأفكار. وتتأتى مثل هذه المنطلقات من محنة الركود والثبات التي عايشها هذا المثقف في وهي جمعي من التبعية والتقليد و(التحريف) وهنا لا يستعيد ما توارثناه تراثياً عن تغيير الأصول والتلاعب بها. وإنما يقصد به (إعادة الصياغة) وتجديد الابتكار والانفتاح الذي لا ينتهي للنص. إنه اعتراف بالتغيير واستجابة واعية له، لأن الثبات يعني الانغلاق والموت. ولهذا ماتت نظريات كثيرة جراء عبادتها صنماً.

شارك الكتاب مع اصدقائك