
في البدء كانت النقطة، ومنها ظهر الحرف، والحرف أب الكلمة، والكلمة أم الوجود. والنقطة حانة الله وخمرتها سم زعاف، ما شرب منها عاشق إلا ومات، وكل من مات بسمها استيقظ، وكل أديب عاشق وهب حياته للحرف والكلمة هو خير المستيقظين، وكيف لا يكون كذلك وقد فهم للعمق أنه حينما يجلس إلى ورقته ليرقن فوقها فكره فإن النقطة تحضر بكامل سلطانها وجلالها وهيبتها وتبدأ في الإصغاء إليه لتضيف إلى كل ما يكتبه مزيدا من الاتساع والحرية، ومن البلاغة والفصاحة، وكثيرا من الشعر والجمال، لأنها أصل اللغات كلها، وسر مكنونات الكون، وما من شيء إلا وهي حاضرة فيه، إنها اللغز الذي يتسرب إلى أحلام المبدعين، لتجعل كل واحد منهم رائيا، تبوح له في الرؤى بأسرار الله. وليس الحرف كما يفهمه عامة أهل الكتابة والأدب. إنه غذاء يقوي الروح، إذا أخلصت له وأعطيته النقاوة التي فيك أعطاك الطهر الذي فيه، وفاض عليك بالعطر والعسل والحليب. الحرف أعظم تجربة في الوجود، وأولئك الذين يعيشون دون أن يختبروا طاقته لن يعرفوا أبدا معنى الحياة. اسأل الأنبياء عنه، كلهم سيقولون لك إن العالم لا يكتمل إلا باللغة، واللغة لا تظهر إلا بالنقطة، وطنين النحل حولها، ورنين الأجراس فوقها. ولأنني حفيدة النقطة، كان لزاما علي أن أذهب باحثة عن تجلياتها في عوالم العديد من الأدباء، المعاصرين منهم، والمحدثين والقدماء. ولكي أحقق هذه المهمة الجسيمة كان لا بد لي أن أتحول إلى نسر كوني مهيب، ثم إلى خنفساء ذهبية هي الربة خبري في أرض النقطة، هذا ما همس لي به أبي الحرف وأمي الكلمة، وما كنت أعرف أنني بهذا سعيت لموتي لا لوفاتي، فالموت غير الوفاة، فالأول يخص دائرة اللاوعي في مملكة النفس وبه قد يحدث أن تغادر النفس جسدا ما ثم تعود إليه في تجربة حياتية تجسدية أخرى، أما الوفاة فتعني مغادرة الروح للجسد بشكل لا عودة ولا رجوع فيه. وبهذا النوع من موت النفس وهب لي الرحمن القدرة على النزول إلى عالم الأدباء السفلي، وزيارتهم في مملكة الخيال الخاصة بكل واحد منهم، ويا له من عالم عجيب غريب خطير، فيه القوة والضعف، والخير والشر، والخوف والطمأنينة، والنور والظلام والطلاسم، عالم يدفعك دفعا إلى أن تتساءل عن اللغة التي ستكتب بها أفكارك، ألغة الروح القدس، أم لغة لا روح فيها ولا نور، وفقط حينما تختار لغتك المثلى ستعرف إذا كنت تريد أن تعيد الظلام إلى طاعة الله أم أن يكون حرفك مكشوفا لكل قوى الشر القادمة من باطن الأبجديات الكونية؟! هذا هو التحدي، فلا بد أن تهزم الليل بلمعان سيف الحرف ودرع النقطة، ولا بد أن تعرف أن ليس كل من يكتب يمتلك سر تحويل المعادن إلى ذهب خالص، وإلا لأصبح كل الكتاب أثرياء، وتذكر أيضا أنه لا وجود أصلا لهذا السر - إذا كنت تفكر في البحث عنه -، وإلا لرأيت الملوك وأقوياء العالم يمتهنون الكتابة قبلك! الكاتب العابد الحق يعاف الذهب أينما كان، لأنه غني بنور الله، وشقي من لا يعرف أن ذهب الكتابة هو الألم، وتعيس ذاك الذي لا يريد أن يتألم، لأنه سيعيش مطحونا بالعذاب والآهات. والحياة تجرف بدون هوادة ولا شفقة كل من لا يريد أن يمشي فوق الجمر، ولا أن يلقي بنفسه في بحرها الهائج. لا بد لك من السباحة أو الكتابة الآن أيتها الناقدة النسر والربة الخنفساء، ليس أمامك خيار آخر. هذا ما أخبرني به أبي الحرف وأمي النقطة! نعم، كان لا بد أن أتحول إلى جعران هيروغليفي كبير وأنا أقرأ أعمال كل هذه الأسماء التي ستطالعك بين صفحات هذه الموسوعة النقدية الجديدة، لأنني أعرف جيدا أن في مادتها الخام روائية كانت أو شعرية أو تشكيلية لا بد توجد تلك العناصر العضوية التي بعد تحليلها وغربلتها سأكون منها كرتي الذهبية، أو شمسي الخيميائية الكبرى التي بها سأنفخ في كل رواية أو قصيدة أو لوحة حياة أخرى، وأنبت لها أجنحة تنقلها من واقع أرضي آني إلى آخر مستقبلي كوني أعلى، حيث للكلمة معاني وتأويلات جديدة أكثر حياة وبهاء من أي وقت مضى. وهذا عمل ما كنت لأحققه لو لم أدخل إلى زمن الدلو، زمن التحولات الكبرى، والأوبئة والحروب وفتن الذكاء الاصطناعي الرهيب، عصر الجشع والأطماع التوسعية الهائلة، بل عصر الخرائط والأنظمة العالمية الجديدة. وحده حفيد النقطة، الناقد الأدبي ذو البصيرة التاجية، له القدرة على أن يرى أنه ما لم يتحول حقا وحقيقة إلى نسر، ثم خنفساء فإنه لا يمكنه أن يكتب أي شيء، ولا أن يعيد تدوير وتحويل كتابات الآخرين إلى تبر حقيقي، ولا أن ينزل إلى الأقبية، ولا أن يدخل إلى مملكة الخيال العظمى، ليبحث فيها عن كل أديب كيف يتحرك في رواياته وقصائده أو لوحاته، وعن الدوافع النفسية المسؤولة عن تفجير العملية الإبداعية بداخله، دون أن ينسى أنه وهو هناك في أعماق الأقبية لا بد سيلتقي بأصدقاء بل خلان الأدباء الأوفياء: العنكبوت والهدهد، والغراب والحمامة. وحدهم هؤلاء الرؤساء في وزارتي الداخلية والشؤون العسكرية الخاصة بمملكة الخيال، يستطيع الناقد الحق برفقتهم أن يشعر بالأمان والطمأنينة وهو يحفر بمعوله في نصوص تستحق أن يهب لها جزءا كبيرا من وقته وحياته اليومية دون أن يقع في شراك النقد الأدبي المعاصر المريض، والملوث بالرغبات المشوهة، التي تجعل الكثير من النقاد أعداء للأدباء ناسين أن العملية النقدية هي قبل كل شيء علم، وكل علم لا بد له من ضوابط وأخلاقيات، وخير النقاد من فتح قلبه لنور الحرف، وغسل بفيوضات النقطة أدران النفس، وعمل بصبر وثبات بالضبط كما يفعل الرب خبري، وهو يسعى دافعا برأسه كرته نحو اللانهايات العظيمة، غير مبال بأولئك الذين قد يرون في عمله هذا حالة سيزيفية محضة، لا جدوى منها وإن كانت الكرة التي يحمل فوق رأسه شمسا من الذهب الخالص! د. أسماء غريب
في البدء كانت النقطة، ومنها ظهر الحرف، والحرف أب الكلمة، والكلمة أم الوجود. والنقطة حانة الله وخمرتها سم زعاف، ما شرب منها عاشق إلا ومات، وكل من مات بسمها استيقظ، وكل أديب عاشق وهب حياته للحرف والكلمة هو خير المستيقظين، وكيف لا يكون كذلك وقد فهم للعمق أنه حينما يجلس إلى ورقته ليرقن فوقها فكره فإن النقطة تحضر بكامل سلطانها وجلالها وهيبتها وتبدأ في الإصغاء إليه لتضيف إلى كل ما يكتبه مزيدا من الاتساع والحرية، ومن البلاغة والفصاحة، وكثيرا من الشعر والجمال، لأنها أصل اللغات كلها، وسر مكنونات الكون، وما من شيء إلا وهي حاضرة فيه، إنها اللغز الذي يتسرب إلى أحلام المبدعين، لتجعل كل واحد منهم رائيا، تبوح له في الرؤى بأسرار الله. وليس الحرف كما يفهمه عامة أهل الكتابة والأدب. إنه غذاء يقوي الروح، إذا أخلصت له وأعطيته النقاوة التي فيك أعطاك الطهر الذي فيه، وفاض عليك بالعطر والعسل والحليب. الحرف أعظم تجربة في الوجود، وأولئك الذين يعيشون دون أن يختبروا طاقته لن يعرفوا أبدا معنى الحياة. اسأل الأنبياء عنه، كلهم سيقولون لك إن العالم لا يكتمل إلا باللغة، واللغة لا تظهر إلا بالنقطة، وطنين النحل حولها، ورنين الأجراس فوقها. ولأنني حفيدة النقطة، كان لزاما علي أن أذهب باحثة عن تجلياتها في عوالم العديد من الأدباء، المعاصرين منهم، والمحدثين والقدماء. ولكي أحقق هذه المهمة الجسيمة كان لا بد لي أن أتحول إلى نسر كوني مهيب، ثم إلى خنفساء ذهبية هي الربة خبري في أرض النقطة، هذا ما همس لي به أبي الحرف وأمي الكلمة، وما كنت أعرف أنني بهذا سعيت لموتي لا لوفاتي، فالموت غير الوفاة، فالأول يخص دائرة اللاوعي في مملكة النفس وبه قد يحدث أن تغادر النفس جسدا ما ثم تعود إليه في تجربة حياتية تجسدية أخرى، أما الوفاة فتعني مغادرة الروح للجسد بشكل لا عودة ولا رجوع فيه. وبهذا النوع من موت النفس وهب لي الرحمن القدرة على النزول إلى عالم الأدباء السفلي، وزيارتهم في مملكة الخيال الخاصة بكل واحد منهم، ويا له من عالم عجيب غريب خطير، فيه القوة والضعف، والخير والشر، والخوف والطمأنينة، والنور والظلام والطلاسم، عالم يدفعك دفعا إلى أن تتساءل عن اللغة التي ستكتب بها أفكارك، ألغة الروح القدس، أم لغة لا روح فيها ولا نور، وفقط حينما تختار لغتك المثلى ستعرف إذا كنت تريد أن تعيد الظلام إلى طاعة الله أم أن يكون حرفك مكشوفا لكل قوى الشر القادمة من باطن الأبجديات الكونية؟! هذا هو التحدي، فلا بد أن تهزم الليل بلمعان سيف الحرف ودرع النقطة، ولا بد أن تعرف أن ليس كل من يكتب يمتلك سر تحويل المعادن إلى ذهب خالص، وإلا لأصبح كل الكتاب أثرياء، وتذكر أيضا أنه لا وجود أصلا لهذا السر - إذا كنت تفكر في البحث عنه -، وإلا لرأيت الملوك وأقوياء العالم يمتهنون الكتابة قبلك! الكاتب العابد الحق يعاف الذهب أينما كان، لأنه غني بنور الله، وشقي من لا يعرف أن ذهب الكتابة هو الألم، وتعيس ذاك الذي لا يريد أن يتألم، لأنه سيعيش مطحونا بالعذاب والآهات. والحياة تجرف بدون هوادة ولا شفقة كل من لا يريد أن يمشي فوق الجمر، ولا أن يلقي بنفسه في بحرها الهائج. لا بد لك من السباحة أو الكتابة الآن أيتها الناقدة النسر والربة الخنفساء، ليس أمامك خيار آخر. هذا ما أخبرني به أبي الحرف وأمي النقطة! نعم، كان لا بد أن أتحول إلى جعران هيروغليفي كبير وأنا أقرأ أعمال كل هذه الأسماء التي ستطالعك بين صفحات هذه الموسوعة النقدية الجديدة، لأنني أعرف جيدا أن في مادتها الخام روائية كانت أو شعرية أو تشكيلية لا بد توجد تلك العناصر العضوية التي بعد تحليلها وغربلتها سأكون منها كرتي الذهبية، أو شمسي الخيميائية الكبرى التي بها سأنفخ في كل رواية أو قصيدة أو لوحة حياة أخرى، وأنبت لها أجنحة تنقلها من واقع أرضي آني إلى آخر مستقبلي كوني أعلى، حيث للكلمة معاني وتأويلات جديدة أكثر حياة وبهاء من أي وقت مضى. وهذا عمل ما كنت لأحققه لو لم أدخل إلى زمن الدلو، زمن التحولات الكبرى، والأوبئة والحروب وفتن الذكاء الاصطناعي الرهيب، عصر الجشع والأطماع التوسعية الهائلة، بل عصر الخرائط والأنظمة العالمية الجديدة. وحده حفيد النقطة، الناقد الأدبي ذو البصيرة التاجية، له القدرة على أن يرى أنه ما لم يتحول حقا وحقيقة إلى نسر، ثم خنفساء فإنه لا يمكنه أن يكتب أي شيء، ولا أن يعيد تدوير وتحويل كتابات الآخرين إلى تبر حقيقي، ولا أن ينزل إلى الأقبية، ولا أن يدخل إلى مملكة الخيال العظمى، ليبحث فيها عن كل أديب كيف يتحرك في رواياته وقصائده أو لوحاته، وعن الدوافع النفسية المسؤولة عن تفجير العملية الإبداعية بداخله، دون أن ينسى أنه وهو هناك في أعماق الأقبية لا بد سيلتقي بأصدقاء بل خلان الأدباء الأوفياء: العنكبوت والهدهد، والغراب والحمامة. وحدهم هؤلاء الرؤساء في وزارتي الداخلية والشؤون العسكرية الخاصة بمملكة الخيال، يستطيع الناقد الحق برفقتهم أن يشعر بالأمان والطمأنينة وهو يحفر بمعوله في نصوص تستحق أن يهب لها جزءا كبيرا من وقته وحياته اليومية دون أن يقع في شراك النقد الأدبي المعاصر المريض، والملوث بالرغبات المشوهة، التي تجعل الكثير من النقاد أعداء للأدباء ناسين أن العملية النقدية هي قبل كل شيء علم، وكل علم لا بد له من ضوابط وأخلاقيات، وخير النقاد من فتح قلبه لنور الحرف، وغسل بفيوضات النقطة أدران النفس، وعمل بصبر وثبات بالضبط كما يفعل الرب خبري، وهو يسعى دافعا برأسه كرته نحو اللانهايات العظيمة، غير مبال بأولئك الذين قد يرون في عمله هذا حالة سيزيفية محضة، لا جدوى منها وإن كانت الكرة التي يحمل فوق رأسه شمسا من الذهب الخالص! د. أسماء غريب
المزيد...